شجرة بُرتقالهِ المُورقة

عندما غادر أبي بيّارةَ أبيه لآخر مرّةٍ دون رجوع، أمسكَ حبّةَ بٌرتقالٍ كانت مُمسكةً بِأمّها.. ضمّها في يده وشمّها، رائحةُ برتقالِ يافا كانت دائمًا مُميزةً في السوق الشعبيّ في رومانيا، تذكّر أبي ذلك المشهد لمّا غادرَ في طفولته البلدةَ نازحًا.. مُقتَلَعًا.. مٌشرّدًا، تذكّره وابتسم ابتسامةً مجروحةً، كان ذلك عندما رأى شاحنةً كبيرةً تقفُ بجانب السوق في العاصمة (بوخاريست)، يٌنزلون منها صناديقَ مُعبّئة بالبرتقال مختومًا على كلّ شمسٍ منها – يافا – وما مضت بضعَ دقائق حتّى نَفِدت كل الكميّة المُستوردة من هُناك، اقصد…من مكان كان يعرفه جيّدًا ولَعِبَ في كرومهِ كثيرًا، وتنفّس غسق سمائه على أن أصبح هو السماء والغصن والشجر، إلى أن أصبحت الأرض أمه، والحجر أباه، والغيم العتيق فوق بيته…أخاه.
كم من الوقت سيحتاج لكي ينسى أنّه فقد كلّ هؤلاء وغادر عُنوةً.. و فقد حتّى شجرة بُرتقاله المورقةَ التي زرعها جدّي له عندما وُلِد؟ ام أنّه سيُمضي عُمره يسترجع الروائح والحصواتِ التي مشى عليها حافيَ القدمين والضوء… والطيور التي قبّلت رأسه يومًا وهو مُستلقٍ في البستان تظلّه شجرة التين الكبيرة؟ هل سينسى تلك الطيور التي قبّلت رأسه وهو مُستلقٍ عندما أتعبها الجناحُ والطيران؟
ترك خلفه حصانًا وشجرًا و وطنًا، غادر ولم يحمل معه شيئًا.. ولا حمل معه أحدٌ ما لم يحمل… سِوى الشوق، الذي لم يحمل الإنسان أثقل منه، تلفّه في طريق الليالي الهُوجِ الطويلة الباردة ذاكرته المُخضرّة بالمكان. أمّا جدتي، فحملت معها مفتاح البيت الضائع والمفقود فيما بعد..مُعلّقًا كان في رقبتها، وقبل سنوات، أهداني والدي سلسالًا فيه مفتاحٌ صغيرٌ تمامًا كالذي حملته أمه ذلك اليوم، لكي لا ينسى… لكي يظلّ على قيد الحياة، ولكي يُنعش الجزء الفلسطينيّ في ذاكرته دومًا وللأبد.

 

~بقلم هديل مصطفى الغاوي -١٧ ربيعًا
مدارس الخمائل
تحب الكتابة والتصوير وركوب الخيل